معنى أن نكتب

محلقين حول طاولة دائرية استضافت المذيعة أوبرا الكاتبة توني موريسن مع بعض المتابعات لأعمالها وسألتها حول المعنى من حصولها على جائزة بوليتزر عن روايتها ” محبوبة” أجابتها  توني موريسن أنها لم تكن تعلم برغبتها في أن تصبح كاتبة , مع أنها كانت محاطة بالكتب والقصص والحكايات منذ صغرها , ظنت أن كل ما ينبغي أن يكتب قد كتب عنه بالفعل وأن الأمر انتهى  !

بدأت توني موريسن حياتها ككاتبة حين تجاوزت الثلاثين . كانت تعمل محررة في دار نشر راندوم هاوس حين طبع كتابها الأول الذي لم تجد له ما يماثله أو يحكي موضوعه ولم تخبر دار النشر بها خوفا من فصلها . لم يكن ما تتقاضاه كافيا لأم تعيل طفلين لذا بحثت عن عمل آخر بالإضافة إلى عملها كأستاذة في الجامعة . تقول إنها تتذكر جلوسها أمام الطاولة في دار النشر “كنت أفكر في كل ماأفعله وفي طلاقي ورعايتي لطفلين ,كان شعورا ساحقا لا يمكن احتماله. وجدت نفسي لاأستطيع القيام من أمام الطاولة , فكرت في أنه ربما لو كتبت كل مايجول داخل عقلي في تلك اللحظة  يمكنني تسوية كل تلك الأمور المزعجة . في النهاية تجاوز ما كتبته أربعين صفحة !

ثم أخذت حزمة أوراق  أخرى  وفكرت في كتابة ما أريد أن أفعله إلا أنني لم أكن واثقة تماما من ذلك لذا انتقلت إلى كتابة  قائمة بالأشياء التي إذا لم أفعلها سأموت !  وكان في القائمة جملتين  فقط أن أكون أما لأطفالي وأن أكتب الكتب .”

احتاجت توني للكتابة كوسيلة لترتيب حياتها من خلال كتابة  أفكارها على الورق. ثم بعد ذلك انتقلت للأهم وهو إيجاد معنى لحياتها وقد وجدتها في أمومتها وممارستها للكتابة . كانت الكتابة هي طريقتها للوصول إلى إدراك قيمتها وهدفها في الحياة  وإلى كونها كاتبه أيضا !

أشارك توني في النقطة الأولى , أحيانا تلح عليّ الكلمات لكي تجد لها سبيلا إلى الورق , أحتاج أن أكتب لأتخلص من عودتها وإلحاحها ,تلح على الفكرة / القصة تريد أن ترى النور وغالبا ما أكتبه لايصلح للنشر . هذه الطريقة في الكتابة أي أن أكتب حين تلح عليّ فكرة ما يفقدني الالتزام والاستمرارية لأن فعل الكتابة هنا خاضع للدافع, أريد أن أجرب الفكرة التي تدعو إلى الكتابة كل يوم وأرى إن كانت ستناسبني ؟

 لذة سماوية !

يقول أوليفر ساكس في مذكراته  على الطريق : حياة . ” فعل الكتابة , حين يسير بشكل جيد , يمنحني لذة  , بهجة ليس لها مثيل . تلك اللذة تأخذني لعالم آخر . بغض النظر عن الموضوع الذي أكتب فيه – حين أنغمس تماما في الكتابة لاهياً عن تشتت الأفكار ,  القلق , منشغل  تماما حتى  على مرور الوقت. في تلك الحالة الذهنية السماوية النادرة , قد أكتب بلا توقف حتى أصل إلى مدى لا أرى فيه الورقة  بشكل واضح هنا اعرف أن المساء قد حل وأنني كنت أكتب طوال اليوم . على مدى سنوات عمري , كتبت ملايين الكلمات , لكن  فعل الكتابة  يبدو جديدا وممتعا كما كان عندما بدأته أول مرة قبل ما يقارب السبعين عاما “

مايصفه أوليفر هنا هو أثر الكتابة الجيدة على عقله , تلك الحالة النادرة من الاستغراق في الأفكار والكتابة حتى لايشعر بمرور الوقت .لكن هذا لاينطبق فقط على الكتابة العلمية  , أظن أنها تصلح لأي نوع من الكتابة حتى الشخصية منها. المهم هنا هو الاتصال والقدرة على كتابة كل تلك الأفكار على الورق وكل تلك الأصوات والمخاوف والحكي والعلم أيا كان, الاتصال الجيد بها والقدرة على التعبير عنها والتي تتحسن مع مرور الوقت بالنضج .

الكتابة تمنحك  البصيرة  تساعدك على  تفكيك العلاقة المعقدة بينك وبين ماضيك , سعيك للشفاء , إرادتك لأن تتواصل مع نفسك بصورة جيدة , محاولة فهم ماحدث لك . أو طريق للبحث عنها .

في حالات قليلة ولكنها ليست نادرة تكون الكتابة السبب في صفاء ذهني ليوم كامل .حين أكتب كل ما يقلقني في ورقة ثم أنظر لها من بعيد , أعيد ترتيب الأشياء لتبدوا قابلة للحل , أكتب الخطوات اللازمة ثم أبدأ . أحيانا أسأل نفسي لمَ أنا منزعجة ؟ أو لماذا أتتني نوبة القلق هذه .. أكتب أسبابي أراجعها ثم أفهما , غالبا حين أنتهي من الكتابة أكون قد وصلت لتسوية معها . أعود لهذه التمارين في كل مرة ولم تخذلني أبدا .

نصوص تشبهك .

إلى أي مدى أنت حر حين تكتب ؟ أو فيما تكتب ؟ كشخص نشأ داخل عدة حدود من الأعراف أو التقاليد أو الأفكار التي غُرست فيك أو تلك التي تبنيتها من خلال مقارنتك الدائمة لغيرك ؟

دائما ما أجد نفسي حين أكتب أمام عدة صور لأشخاص أحاول إرضائهم وأمام آخرين أريد أن أتفوق عليهم وأمام نفسي التي تريد أن أعبر عنها بعيدا عن كل تلك الكائنات الوهمية التي تعيش داخل عقلي وكل تلك الصور والمقارنات . وأعلم يقينا أن كل الذين أحببتهم من خلال نصوصهم كانوا من الذين يكتبون عن أنفسهم بحرية وصدق ودون حدود , من رأيت فيهم جانبا إنسانيا كان ذلك هو الصدق في التعبير , نصوص تشبههم تحكي عنهم ,وأنهم استطاعوا بطريقة أو بأخرى أن يتخلصوا من كل تلك الحدود ,ليس بتحطيمها  ولكن بالتسامي عنها .

Let me be, was all I wanted. Be what I am, no matter how I am

يشير هنري ميلر هنا إلى أحد أعظم الهبات لدى الإنسان والذي بقصد منه أو بدون قصد يقيده , الحرية . هذا الاقتباس هو شعاري لما بدأت هذه المدونة . أريد أن أذكر نفسي بهذه الهبة الرائعة التي طالما شعرت أنني لا أملكها لأسباب كثيرة . أحاول أن أذكر نفسي في كل مرة أن هذا المكان  آمن جدا , وأن من اخترته ليرى هذه المساحة سيقدر ما أنشره . وأخيرا أتمنى أن أصل لمرحلة أن أكتب بحرية بدون تلك القيود من التطلعات والقلق من الأحكام المسبقة …الخ .

الكتابة في الأوقات الصعبة .

“إنني في حاجة إلى التخلص من أحزاني “

عندما كان يقلم حقول القش وهو طفل  مع جده , كان دائما ما يلاحظ إيقاعات حياة  المرزعة التي عاش فيها في نيوهامشير , أثر تقلب الفصول , مايحدث للأرض من تكرار حيث تُنْبِت وتُزهِر ثم تذبل لتموت .  “لقد نشأت مدركا جدا لحدوث الخسائر” . لذا حين وقف أمام حديقة زوجته المتوفاة حين حل الربيع راقب بهدوء كيف أنها تتلاشى ببطء وأن بعض الأزهار في تناقص مستمر , يقول ” هناك أشياء منها يمكنني أحتفظ بها وأشياء أخرى لا يمكنني الاحتفاظ بها ولا أريد . هناك أشياء فيها بعض المرارة لا أستطيع التخيل أن أعمل على حديقة جين والتظاهر أنها مازالت كما كانت حين كانت حية , ولسبب ما يناسبني أن أراها تتلاشى , أحب زهورها التي نمت وتلك التي لم تنمو , ولكنني لا أريد استعادة ما كان هناك من قبل , إلا في قصائدي .”1

واجه دونالد هال وفاة زوجته بالكتابة , كان يكتب حين كان مرافقا لها في المستشفى ,يقرأ لها أحيانا .. بل دائما كما كان يفعل أثناء صحتها . كتبت له أيضا أيام مرضه .

كتب الشعر خلال أصعب أيام حياته . قال إن مواظبته على العمل حافظ عليه بصورة جيدة خلال الأشهر التي تلت وفاة جين . “حين كتبت تلك القصائد وقلبي ملتهب احتجت إخماد لهيب الحزن في نفسي . كان من الضروري لي التعامل مع مشاعري .لم أبدأ قصائد الحداد حتى مضى عدة أسابيع من وفاتها , ولكن حين كانت مريضة وكنا نأمل في أنها ستعيش كتبت القصائد عن مرضها , وكنت أقرأ لها بصوت مرتفع” .بعد وفاة زوجته كانت الكتابة هي ملجأه المحبب ” طوال العام الأول الذي توفت فيه جين كنت أعمل على القصائد لبضع ساعات ثم يتبقى لي اثنان وعشرون ساعة بائسة من الانتظار قبل أن أتمكن من العودة إليها لأنني لا  أستيطع نظم الشعر طوال اليوم , لكن كانت تلك الساعتين هما السعادة الوحيدة في ذلك الوقت . كنت أسأل نفسي حين أحرر القصائد التي أكتبها ماذا كانت ستقول جين هنا ؟ لذا حتى بعد وفاتها كانت رفيقة لي أثناء كتابة القصائد . “

قرأت مرة أن ماكنت معتادا عليه أيام رخائك ستمارسه أيام شدتك , لنصف قرن مارس دونالد هال الكتابة وحين تعامل مع أمرين شديدين : وفاة زوجته وَ عمره الطويل عَبَرَهُما بالكتابة أيضا , ربما لأنه الشيء الوحيد الذي يتقنه ولكن بالتأكيد الكتابة أثناء الأوقات الصعبة له تأثير كبير على النفس .

لماذا الكتابة مفيدة لتجاوز الأوقات الصعبة؟

الكتابة خلال الأيام الصعبة طريقة صحية للتجاوز الألم , والالتهاء عنه . بدلا من الانغماس في العادات الضارة أو الاستغراق في الأفكار السلبية تكون الكتابة متنفس جيد .

الكتابة طريقة رائعة لإطلاق  مشاعرك , والتعبير عن نفسك بحرية, استراتيجية مفيدة لفهم نفسك وإخراج كل مالديك , فبمجرد أن ترى كلماتك على الورق قد تتمكن من رؤية الموقف من وجهة نظر أخرى .

دليل الكتابة للأوقات الصعبة .

عندما تكتب من المهم أن تدع نفسك تكتب بحرية دون إطلاق أحكام على مشاعرك أو قلق من أنها ستنكشف  , لا يهم إن احتفظت بها أو مزقت الورقة فيما بعد . وليس من الضروري نشرها .

حين تبدأ بالكتابة حاول تخصيص وقت معين لليوم للكتابة فيه , يمكن أن يكون أقل من 15 دقيقة ثم تبدأ بعد ذلك في زيادة الوقت المخصص للكتابة , أو أن تكتب بحرية دون تقييد زمن محدد.

حتى بالنسبة للخبراء في الكتابة تكون الكتابة في الأيام الصعبة صعبة أيضا عليهم , أنت تتعامل مع مشاعر مختلفة وقد تظهر بعض المشاعر مثل الغضب والحزن والسعادة والندم . قد تجد حين تنتهي من كتابة مشاعرك أنها لم تكن بالسوء الذي ظننته , وقد تكون ممتنا لتلك الأيام الصعبة والتجارب المؤلمة فيما بعد لأنك أدركت معناها حين وضعتها في سياقها الصحيح بعد كتابتها وتجريدها من العواطف الجامحة وحين تنظر للأمر بموضوعية أكثر قليلا ” ربما لم تكن بهذا السوء ” – من الضروري هنا التخلص من فكرة كونك ضحية –

إذا كان الموقف مؤلما بشدة  قد تحتاج إلى مرشد أو معالج ليس بالضرورة أن تمر بهذه التجربة لوحدك .

وأخيرا حين تكتب , ضع قائمة بأكبر عدد من  الحلول , مهما كانت منطقية أو غير منطقية , لأن الهدف  ليس الحصول على نص أدبي ولا القلق بشأن تفاصيل محددة . وحين تكون جاهزا قم بتقييم الحلول و وازن بين الإيجابيات والسلبيات وحدد الخيارات التي تريد أن تنفذها . وتذكر أنك لن تجد الكمال ولكنك تسعى للأفضل بكل ما لديك وأن  ما لديك ليس بقليل .

الكتابة عن الأيام الجيدة .

على أمل تجاهل إحساسها بعدم اليقين بشأن مستقبلها قررت كيتي أن تكتب كل يوم  قائمة من المباهج والتي ستشعرها بالهدوء وتكون ملاذا آمنا لها وسط اضطراب حياتها في أزمة جائحة كورونا  . في بداية تجربتها كان العثور على المباهج أمرا سهلا ليس بسبب حصول  الكثير من الأمور الرائعة في يومها  ولكن لأن المباهج الصغيرة حين تتجمع تحدث فرقا !

سبق أن قرأت العديد من المقالات التي تتحدث عن قوائم الإمنتنان اليومية , أريد توسيع نطاقها لتصبح الكتابة عن أي بهجة أو سرور تشعر به , الكتابة عن الأيام الجيدة , والكلمات الطيبة التي قيلت لك , واللطف الذي شعرت به . أنظر لكل ماحولك بطريقة أخرى . منذ أن كنت في التاسعة من عمري وأنا أتأمل السماء والسحب ومازلت أحتفظ بذات البهجة والسرور الذي شعرت بها حين كنت في التاسعة .

الكتابة عن الأيام الجيدة سيكون دليلا على أنك عشت أياما بسلام وسعادة وستعود لك مرة أخرى , تماما كما الكتابة في اللحظات الصعبة ستكون دليلا على أنك خضت تلك التجربة ونجوت منها .

قبل الختام .

لست أقارن نفسي بتوني موريسن ولا أقول إن لدي أفكارا عظيمة مثلها , ولا أدعو أحدا لكي يكون بعلم أوليفر ساكس ولا أن الطريقة الوحيدة لتشعر باللذة السماوية الذي وصفها هي أن تكتب ليوم كامل !

 ولكن دائما أحب الجانب الإنساني المشترك بيننا وبين المبدعين / الآخرين , الجانب المشترك في المعاناة ,في السعي  عن القيمة , ما يجعلهم بشرا مثلنا هذا ما أبحث عنه دائما . وأود أن أشارك قصصهم معكم ربما تكون دليلا لنا .

وفي الختام عزيزتي القارئة / عزيزي القارئ أريد أن أسألك لماذا لا تكتب ؟

مراجع .

1-سبارك – كيف يعمل الإبداع؟جولي بيرشتاين

سمية عبدالرحمن 🤍❤️

14 فكرة على ”معنى أن نكتب

  1. م

    مرحباً ..
    في البدء أود تهنئتك على هذه المدونة الجميلة التي أمتعني تصفحها.. أرى أن الكتابة في وقتنا الحاضر على الانترنت وبرامج التواصل أصبحت أسهل وأكثر متعة للقارئ والكاتب في نفس الوقت.. فقد أسقطت العديد من القيود من على كاهليهما.. وكونت فضاءا فسيحاً جداً لحرية النشر والتعبير.. أما عن سؤالك لماذا لا نكتب.. أعتقد بأنه لا يوجد أحد في في وقتنا الحالي لا يكتب في كل يوم، على الأقل رسالة واتساب.. الكل يكتبون ولكن السؤال ماذا يكتبون؟ أعتقد أن المشكلة في الجودة وليس العدد.. أرى أن الجودة تتأثر كثيراً بإيقاع الحياة.. الاهتمامات ومدى احتياج الكاتب لها.

    تحياتي ،،،
    م

    Liked by 1 person

    1. هلا (م)
      شاكرة لك تخصيص وقت لقراءة المدونة.
      فعلا التطور التقني سهل عملية الكتابة والنشر. لاحظت في السنة الأخيرة كثرة المدونات الجديدة وهذا يعني أن هناك حراكا نحو الكتابة المطولة بعيدا عن تويتر محدود الأحرف أو “الواتس ” الذي غالبا ما يتم تداوله عبارة عن نسخ من هنا وهناك.
      بالنسبة للجودة تظل هاجسا حقيقيا لي. ما هو الجيد وما هو الغير جيد وكيف نقيم ما نكتب؟
      أسئلة كثيرة ولكن أظن أن الممارسة الجادة للكتابة ستصل بالكاتب نحو طريق ما..
      شكرا لك.

      إعجاب

  2. تنبيه: هل يمكن منافسة موقع موضوع دوت كوم بوقت قصير؟ – مدونة يونس بن عمارة

أضف تعليق